بقلم د. احمد شعبان .. الضوابط القانونية للتحقيق في الجرائم الدولية.

كتب : د. أحمد شعبان
الجمعة 21 اكتوبر 2022 - 02:08 م

بقلم: د. أحمد شعبان

تعتبر الجريمة سلوكا ينتهك القواعد الأخلاقية والقانونية على حد سواء، وهي كل سلوك تحرمه الدولة لما يترتب عليه من ضرر على المجتمع والأفراد، وقد تطورت أساليبها واتسع نطاقها مع تعدد الدول، بحيث لم تقف الحدود عائقا أمام المجرمين الذين ارتكبوا جرائم في غاية الخطورة مست أمن وسلامة البشرية بشكل عام، مما دعا لإنشاء قواعد خاصة بهذا النوع من الجرائم وفق قانون محدد يضم شقين أحدهما دولي والآخر جنائي، وتأسيس هيئات دولية خاصة لمعاقبة هؤلاء المجرمين الذين يخالفون القواعد الأخلاقية والقانونية للدول، ولذلك فوجود نظام قضائي جنائي دولي أمر في غاية الأهمية، ولا يقل أهمية عن وجود النظام القضائي الداخلي في أي مجتمع طبيعي متحضر، خاصة إذا نظرنا إلى بشاعة الجرائم الدولية وأثرها على البشرية جمعاء، ولما لهذا القانون من أهمية قصوى في مجال إسباغ الحماية الجنائية على المصالح ذات الأهمية البارزة في المجتمع الدولي.

ومن أجل تطبيق القانون وتحقيق العدالة يشكل التحقيق في الجرائم الدولية والمحاكمة عليها بمختلف أنواعها مثل جرائم الإبادة الجماعية، والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب – مكونة أساسية للقانون الدولي الجنائي، حيث تساعد التحقيقات مع القادة المجرمين سياسيين كانوا أو عسكريين ومحاكمتهم على حد سواء في تقوية سيادة القانون، وتبعث برسالة قوية مفادها أن الجرائم من هذا النوع لن يسمح بها مطلقا في مجتمع دولي يحترم الحقوق. من خلال هذه المنطلقات التي تكمن في هذه الدراسة، تظهر ملامح هذا البحث الذي حمل عنوان: التحقيق في القانون الدولي الجنائي.

هناك من الفقهاء من يقول إن مبدأ الشرعية بدأ يبرز في القانون الدولي الجنائي بعد صدور العديد من المعاهدات الدولية التي تحدد الجرائم الدولية ، ولكن ما دام أن مصدر هذه المعاهدات الدولية هو العرف وأن هذا الأخير في حالة تطور مستمر إن فكرة الجريمة الدولية ليست حديثة تماما في المواثيق الدولية بدليل تناولها ديباجتي اتفاقيات لاهاي لعام 1899 و 1907 كل من جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية ، ومنذ ذلك الوقت توالت الجهود الدولية لتقنين الأعمال التي تعد من قبيل الأفعال التي تهدد مصالح جوهرية للجماعة الدولية عن طريق اتفاقيات ومعاهدات دولية، و الشيء الجديد في مفهوم الجريمة الدولية ” أنه : يتضمن فعلا غير شرعي هو جريمة الدولة التي تنسب إلى الدولة ذاتها، حيث لقيت الجريمة الدولية اهتماما متزايدا من قبل المجتمع الدولي وخصوصا في القرنين الأخيرين ، وقد تنامي هذا الاهتمام العالمي بهذه الجرائم في إطار المحاولة للتخفيف من الآلام التي لحقت بالبشرية جراء ارتكاب العديد من الجرائم البشعة في حق الشعوب لا سيما خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية وما تبعهما من حروب أهلية وإثنية وعرقية، وسياسات تمييز عنصري مقيتة عانت ومازالت تعاني منها البشرية حتى يومنا هذا.

ماهية الجرائم الدولية

نص النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية في المادة الخامسة منه على الجرائم التي تدخل ضمن اختصاصات المحكمة، وقد وصفت هذه الجرائم بأشد الجرائم خطورة، والتي تكون موضع اهتمام المجتمع الدولي بأسره، وهذه الجرائم بالإضافة إلى جريمة الإبادة الجرائم ضد الإنسانية، وجريمة الحرب وجريمة العدوان.

والمحكمة الجنائية الدولية هي مؤسسة قائمة على معاهدة ملزمة فقط للدول الأعضاء فيها فهي ليست كيانا فوق الدول، بل هي كيان مماثل لغيره من الكيانات القائمة فهي ليست بديلا عن القضاء الجنائي الوطني، وإنما هي مكمل له المادتين 01-17، فالمحكمة لا تقوم بأكثر مما تقوم به كل دولة من المجتمع الدولي الأعضاء في معاهدة أنشأت بمقتضاها مؤسسة لمباشرة قضاء مجموعة الجرائم دولية محددة.

والمحكمة الجنائية الدولية هي عبارة عن مؤسسة دولية قضائية مستقلة ودائمة ذات اختصاص جنائي، أنشئت بموجب المعاهدة الموقع عليها في روما عام 1998 الغرض التحقيق ومحاكمة الأشخاص الطبيعيين، الذين يرتكبون أشد الجرائم خطورة على المستوى الدولي على وفق ما أشارت إليه المادة الخامسة من نظامها، وهي الإبادة الجماعية، الجرائم ضد الإنسانية ، جرائم الحرب وجريمة العدوان، علما بأنها ليست كيانا فوق الدول ولا بديل عن القضاء الجنائي الوطني و إنما مكملة له، وبعد مرور أكثر من عشر سنوات على إنشائها أثبت الواقع العملي وجود العديد من العقبات التي تحول دون تحقيق أهدافها، مما يحتم عليها تدارك الثغرات والنقائص التي تعتري نظامها الأساسي للحد من إفلات الجناة من العقاب، وكذلك العمل على زيادة عالمية نطاقها من خلال حث الدول على الانضمام إليها والتعاون معها، لأن أمل البشرية في أن تصبح هذه المحكمة درعا قويا تعمل على تحقيق العدالة وتتصدى لمنتهكي حقوق الإنسان، وهذا يتطلب منها نضالا مستمرا للوصول للعدالة الجنائية الدولية المنشودة.

مفهوم الجريمة الدولية

لقد قام نخبة من فقهاء القانون بوضع تعاريف مختلفة للجريمة الدولية ومن هؤلاء الفقهاء الفقيه بيلا حين عرف الجريمة الدولية بأنها “إذا كانت عقوبتها تطبق وتنفذ باسم الجماعة الدولية” في حين عرفها الفقيه جلاسير بأنها “واقعة إجرامية مخالفة القواعد القانون الدولي تضر بمصالح الدول التي يحميها هذا القانون أما لجنة القانون الدولي في مشروعها لتقنين قواعد المسئولية الدولية عن الأعمال غير المشروعة دولية تطرقت إلى تعريف الجريمة الدولية على أنها “تلك التي تقع مخالفة لقواعد القانون الدولي الواردة في نصوص اتفاقية مقبولة على نطاق واسع أو الثابتة كعرف دولي أو كمبادئ عامة معترف بها من قبل الدول المتمدنة وأن تكون تلك الجريمة من الجسامة بحيث أنها تؤثر في العلاقات الدولية أو تهز الضمير الإنساني” [المادة 19 من المشروع، إن الجريمة الدولية تعرف بأنها الجريمة التي تقع مخالفة للقانون الدولي حيث يرتكبها الشخص الدولي بسلوك إيجابي أو سلبي عالما بحرمة السلوك وراغبة بارتكابه محدثة ضرر على المستوى الدولي.

مراحل التحقيق الجرائم الدولية

كفل النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية للشخص الطبيعي حال مثوله المساءلة أمامها بتهمة ارتكابه الجريمة من الجرائم الدولية جملة من الضمانات التي توفر له تحقيقا عادلا ونزيها، سواء أثناء مباشرة إجراءات التحقيق التي يتخللها إجراء الاستجواب الذي يعد وسيلة جوهرية للدفاع، الأمر الذي جعل نص المادة 55 من هذا النظام يحيطه بجملة من الضمانات التي تكرس هذا الحق، وتحمي الأشخاص من إساءة استعمال السلطة من قبل القائمين بالتحقيق ضدهم، أو في مواجهة أوامر التحقيق التي يأتي في مقدمتها إجراء القبض، الذي يعد من أخطر الإجراءات الماسة بالحرية الشخصية، لذا اهتم هذا النظام من خلال نصوصه بإحاطته هو الآخر بجملة من الضمانات بداية بتنظيمه مرورا بإجراءاته ووصولا إلى تنفيذه. وقد امتدت هذه الضمانات لتشمل آخر محطة من المحطات التي ينتهي بها التحقيق والمتمثلة في عقد جلسة لاعتماد التهم التي يعتزم المدعي العام طلب المحاكمة على أساسها، التي تعد هي الأخرى ضمانا آخر من الضمانات الممنوحة للشخص، نظرا لما تمكنه من استخدام كافة وسائل الدفاع لدحض التهمة عنه، وبالتالي دفع الدائرة التمهيدية إلى إصدار قرارها برفض اعتماد التهم وهو ما يضع نقطة النهاية لهذه الدعوى.

التحقيق الأولي

يبدأ المدعي العام بإجراء الاستقصاءات والتحقيقات الأولية أو التمهيدية وتمحيص جدي للمعطيات والمعلومات عندما يحاط علما بالجريمة أو الجرائم التي وقعت فعلا ويتصل علمه بإحدى الطرق المنصوص عليها في نص المادة 13 من السالف الإشارة إليها، فإذا توافرت له إحدى هذه الطرق فللمدعي العام أن يباشر التحقيق الأولي، إما بناءا على إحالة دولة طرف في المحكمة الجنائية الدولية، أو إحالة مجلس الأمن أو من تلقاء نفسه على أساس منطقي يدعو لإجراء التحقيق ويقوم بتبليغ الدائرة التمهيدية ويجوز له لهذا الغرض الحصول على معلومات إضافية من الدول أو أجهزة الأمم المتحدة أو المنظمات الحكومية أو غير الحكومية أو أية مصادر أخرى يراها ملائمة.

فإذا استنتج المدعي العام أن هناك سببا للشروع في التحقيق يقوم بطلب إذن من الدائرة التمهيدية مشفوعا بالبيانات والمعلومات التي حصل عليها للبدء في إجراء التحقيق، وإذا رأت الدائرة التمهيدية أن هناك أسبابا مشروعة وجدية تدعو للتحقيق وان الدعوى تقع ضمن اختصاص المحكمة تصدر إذنا للمدعي العام بالشروع فيه، دون أن يخل ذلك بما تقرره المحكمة فيما بعد بما يتصل بمسالة اختصاصها من عدمه، وحتى إذا رفضت الدائرة التمهيدية إعطاء الإذن بالشروع في التحقيق لا يمنع ذلك المدعي العام بإعادة الطلب مرة ثانية مشفوعا بمعلومات إضافية بغرض الشروع في عملية التحقيق من جديد، وفي كل الأحوال على المدعي العام القيام بإبلاغ الدول الأطراف بأية شكوى بارتكاب جرائم دولية أو أية إحالة مرفوعة إليه بهذا الخصوص كما عليه أيضا في حالة استنتاجه أن المعلومات المقدمة والمتعلقة بشكوى أو إحالة ما لا تشكل أساسا كافيا لإجراء التحقيق إبلاغ الجهة مقدمة الشكوى أو الإحالة وكذلك إبلاغ الدائرة التمهيدية بذلك.

وفي جميع الحالات فان المدعي العام أو أحد نوابه مطالب بان يدعم بالدلائل الكافية كل التهم واثبات وجود أسباب جوهرية تدعو للاعتقاد بان ذلك الشخص قد ارتكب الجريمة المنسوبة إليه، كما يجب عليه أو على أحد نوابه ألا يشترك في قضية.

وقد افرز هذا المقال العديد من النتائج وتمثلت تلك النتائج في فيما يلي: –

أولا: إن محكمة الجانيات الدولية هيئة قضائية جنائية دائمة مستقلة، قادرة على محاكمة الأفراد المتهمين بجرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب وجرائم الاعتداء، حيث أنشئت محاكم لمعاقبة مرتكبي الجرائم وهي محاكم نورمبرغ وطوكيو وإن اصطبغت بصبغة عسكرية.

ثانيا: يعد القضاء الدولي الجنائي جهازا عاما يأخذ على عاتقه مهام مباشرة اجراءات التحقيق بين عدة جهات وفي مختلف المحاكم الدولية ابتدءا بمحكمة نورمبرغ مرورا بمحاكم يوغسلافيا ورواندا انتهاءا بمحكمة روما الدائمة، وهذه الجهات هي أما الإدعاء العام أو دوائر المحكمة او اللجان الخاصة، ولا شك في أن توزیع مهمة مباشرة التحقيق بين هذه الجهات المختلفة وذات المسؤوليات العديدة يثقل كاهل هذه اللجان من جهة ويضر بعملية سير التحقيق من جهة اخرى.

ثالثا: يتمثل النظام الذي تبناه القضاء الدولي الجنائي في مرحلة التحقيق كأساس للإجراءات الجنائية في نظام مختلط قريب من النظام الاتهامي، ولكنه لا ينطبق عليه تماما فهو مزيج بين خصائص هذا النظام وخصائص نظام التحري والتنقيب.

رابعا: إن دائرة ما قبل المحاكمة أو الدائرة التمهيدية تنتمي إلى الجهاز القضائي المكون للمحكمة الجنائية الدولية، إضافة إلى الأجهزة الأخرى المكونة للمحكمة وهي الجهاز الادعائي والممثل من طرف المدعي العام نوابه والجهاز الإداري الذي ينظم مسجل المحكمة وجمعية الدول الأطراف، المتضمنة الدول الأطراف في المحكمة ويقتصر عملها في التنسيق السياسي والتعاون القضائي مع المحكمة.

خامسا: تمتلك المحكمة الجنائية الدولية آليات فعالة لمتابعة ومحاكمة مرتكبي الجرائم الدولية المنصوص عليها في المادة 05 من النظام الأساسي، بدءا من التحقيق الذي يتولاه النائب العام أو المدعي العام، إضافة إلى دائرة ما قبل المحاكمة أو الشعبة التمهيدية والتي تتولى إصدار أوامر بالقبض والإحضار ضد المتهمين والمشتبه فيهم وبناءا على طلب المدعي العام، وصولا إلى دائرة المحاكمة أو ما يسمى بالدائرة الابتدائية والتي تتولى توجيه التهم ومحاكمة المجرمين الدوليين فتصدر أحكاما بحقهم إما بالبراءة أو بإدانتهم بعقوبة السجن وتحديد للمحكوم عليهم أماكن تنفيذ عقوبتهم بالتنسيق مع المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، علما أن التشريع الدولي الجنائي، المتمثل في النظام الأساسي للمحكمة، أعطى للمتهم والنائب العام حق استئناف هذه الأحكام أمام دائرة الاستئناف، ونفس الحق كرس للضحايا للمطالبة بحقوقهم المدنية.

سادسا: إن القضاء الدولي الجنائي جهاز عام يأخذ على عاتقه مهام مباشرة اجراءات التحقيق بين عدة جهات وفي مختلف المحاكم الدولية ابتدءا بمحكمة نورمبرغ مرورا بمحاكم يوغسلافيا ورواندا انتهاءا بمحكمة روما الدائمة، وهذه الجهات هي أما الإدعاء العام أو دوائر المحكمة او اللجان الخاصة، ولا شك في أن توزيع مهمة مباشرة التحقيق بين هذه الجهات المختلفة وذات المسؤوليات العديدة يثقل كاهل هذه اللجان من جهة ويضر بعملية سير التحقيق من جهة اخرى.

سابعا: إن مرحلة التحقيق من أهم مراحل الدعوى الجزائية والتي يتم فيها إعداد الأدلة القانونية الصحيحة وتقديمها بين يدي القضاء المتخصص بالحكم والفصل.